الجمعة، أغسطس ٢٢، ٢٠٠٨

الابتكار .. في مجتمع المعلومات

لماذا التفكير الابتكاري .. الآن ؟
التفكير الواضح أو الجلي

في مقدّمة كتاب "التفكير الواضح" للكاتب هاي روتشيلدز، يقول إيزاك آزيموف الكاتب العلمي، و مؤلّف قصص الخيال العلمي الشهير :
"التفكير هو قمّة الموارد البشرية و ذروتها . و مع ذلك، فنحن لا نبدي الرضا عن أكثر مواردنا و مهاراتنا أهمية . أمّا الذين يبدون سعداء بما وصلوا إليه من مهارات التفكير، فهم فقراء التفكير، الذين يعتقدون أن هدف التفكير هو إثبات أنّهم على حق، إرضاء لذواتهم ".
ثم يستطرد آزيموف قائلا : أننا نعرف على الأقل مليوني جنس من الكائنات الحيّة على الأرض حاليّا، و المحتمل أنه عاش عليها في الماضي عشرون مليونا، انقـرض معظمها . من بين جميع هذه الملاييـن، يعتبر الجنس البشري هو الجنس الوحيد ـ في حدود ما نعرف ـ القادر على التفكير المركـّب، و القادر على التعامل مع الأفكار المجرّدة القائمة على الاستنتاج المنطقي . و كلّنا، كلّ واحد منّا، إذا ما كان سويّا، يمكنه أن يمارس هذا التفكير، فهو علامة مميّزة لإنسانيتنا، بل العلامة المميّزة الحقيقية و الوحيدة، باعتبار أن ما هو غير ذلك من خصائصنا لا ننفرد به تماما، و لا نحقق فيه تفوّقا على باقي الأجناس، الكائن منها والمنقرض .
لماذا إذا تحتاج عملية التفكير الطبيعية هذه إلى ما نشهده من تدفّق الكتب و الأبحاث التي تشرح لنا : كيف نفكّر ؟

الثلاثـاء المزعـج

يقول آزيموف أن السرّ في هذا، أنه بالرغم من ممارسة كل إنسان للتفكير، إلاّ أننا لا نفكّر جميعا تفكيرا واضحا أو جليّا . قلّة فقط هي التي تفكّر بجلاء و وضوح، و حتّى هذه القلّة تقع في مصيدة التفكير الخاطئ، لسبب أو لآخر . ثم يستطرد مداعبا " و لست في حاجة إلى أن أحدّد لكم فردا بعينه، ينطبق عيه هذا الوصف، فيكفي أن أقدّم لكم نفسي " .
يوضّح هذا قائلا : كلّ يوم ثلاثاء، أخصّص الوقت من التاسعة صباحا و حتّى الثالثة بعد الظهر، لمقابلة الناشرين و تناول الغذاء في نادي الناشرين الذي أرأسه . بعض أيام الثلاثاء يكون مشمسا، و بعضها يكون ملبّدا بالغيوم أو ممطرا، أو يتساقط فيه الجليد . بعضها يكون معتدل الطقس، ة بعضها يكون باردا أو حارّا .
عندما يكون الطقس لطيفا في أحد أيام الثلاثاء، لا أعير ذلك اهتماما، و من ناحية أخرى أكون منتبها، عندما يكون مزعجا و تتراوح مشاعري بين الغضب و التعاسة . أما إذا تعاقب إزعاج طقس الثلاثاء لمرّتين أو أكثر، أقول لكل من أقابله " الطقس يكون دائما سيئا يوم الثلاثاء " . فإذا حلّ ثلاثاء لطيف الطقس، شعرت أنني أتعرّض لنوع من الخيانة أو الخديعة، (المفروض) أن يكون طقس الثلاثاء سيئا .
و الحقيقة أن ما أعرفه و يعرفه كلأ منا، هو أن أيام الأسبوع نظام اصطناعي اصطلاحي اخترعه الإنسان لا علاقة بينه و بين المؤثّرات الطبيعية للطقس، و أنه إذا راجعنا الطقس على مدى عدّة سنوات، اكتشفنا أن كلّ يوم من أيام الأسبوع يمرّ بنفس معدّل حالات الطقس .
أمّا عن سر إصراره على الربط بين الثلاثاء و الطقس السيئ فيقول : لأن إحساسي بأن الطبيعة تضطهدني يسرّني، و يصعّد لدي الإحساس بالمأساوية، عندما أستيقظ صباح الثلاثاء و أرى المطر يتساقط، فأصيح منتصرا " أرأيتم ؟ ! ". لهذا أقول أن التفكير الواضح يحرمنا أحيانا من بعض الاستمتاع .
يستخلص آزيموف قائلا : إن التفكير الواضح يتضمّن جهدا أكبر من جهد التقاط الفكرة الجاهزة و تعميمها . و السرّ في شيوع الاضطرابات و القسوة و البؤس في عالم اليوم، هو أن العديد من البشر يركنون عادة إلى التفكير المشوّش المختلط، وفقا لأنماط جامدة في عقولهم، و يخضعون أحكامهم العقلية لعواطفهم .

إنقاذ العصفور الصغير

يستهل المؤلّف هاي روتشيلدز كتابه " التفكير الواضح "، بحكاية الصبي الصغير جوني أبلتون .
كان جوني في العاشرة من عمره، عندما عثر على عصفور حديث الفقس في قاع فجوة ضيّقة، عمقها أقلّ قليلا من المتر، وسط أعمدة الهيكل الخرساني لعمارة تحت الإنشاء .
تجمّع عمّال البناء في الموقع حول الفجوة، يحاولون الوصول إلى طريقة لإنقاذ العصفور الصغير، دون أن يصلوا إلى نتيجة . و جاءت الفكرة المبتكرة من جانب الصبي جوني، الذي اعتمد على الرمال الموجودة في الموقع، و راح يسكبها برفق و بشكل بطيء للغاية داخل الفجوة . بعد ساعة من الزمن، كانت الرمال قد ملأت الفجوة، و العصفور الصغير يقف فوق الرمال سليما . كانت فكرة جوني هي أن التدفّق البطيء للرمال يتيح للعصفور أن ينفضها بقدميه دائما، مستقرا فوق سطحها .
يعلّق روتشيلدز، متصورا الأفكار التي قد تكون خطرت له قبل فكرة تسريب الرمال، فيقول " ربّما يكون جوني قد فكّر في جميع الطرق التي يمكن بها رفع الأشياء، دوبارة أو خيط يمكن تثبيته في جسم العصفور بطريقة ما، حتى يمكن رفعه إلى أعلى . و لكن كيف يتم تثبيت الخيط في العصفور ؟، ربما يكون قد فكّر في طريقة ما، ثم ما لبث أن استبعدها لاحتمال أن تضرّ بالعصفور .
الذي يجب أن نلاحظه هنا، أن جوني قام بتجريب الحل في عقلـه فقط، دون أن يعمد إلى التجريب العملي. لقد تصوّر الحل، وتساءل : ما الذي يمكن أن يحدث في هذه الحالة ؟ .

البحث العقلي و الابتكار

يقول روتشيلدز، إذ كان عقل جوني قد رفض فكرة الخيط، ربما يكون قد انتقل إلى التفكير في مادة لاصقة عند نهاية عصا . و هي طريقة عملية إذا كان الذي سقط في الفجوة عملة معدنية مثلا . و لابد أنه فكّر في نوع المادة اللاصقة في حالة العصفور، و هل يمكن أن تلحق ضررا به، إذا ما حاول أن يخلّص نفسه . و يقول روتشيلدز،" لاحظ كيف بحث العقل عن عدّة حلول يمكن تطبيقها على المشكلة . هذا النمط من البحث العقلي هو أحد أسرار نجاح المبتكرين من الفنانين و الأدباء و العلماء و الرياضيين والمخترعين والناجحين من رجال الأعمال و الاقتصاد و السياسة " .
ثم يعود إلى واقعة جوني فيقول : ربما يكون قد تخيّل فكرة صبّ الماء في الحفرة، ليعوم العصفور فوقه .. ثم راح يستعرض المشاكل التي يمكن أن يخلقها هذا الحلّ . منها مشكلة تسرّب الماء في ثغرات الإسمنت، و منها احتمال أن يغرق العصفور في الماء .. و هنا، جاءت فكرة استخدام الرمال، و في عقله تصوّر جوني دفعات الرمل البطيئة المتساقطة، و تصوّر العصفور و هو ينتفض ليسقط ما وقع عليه من رمل، و يرتفع فوقه بقدميه .

الاستخلاصات الخمسـة

من واقع ما قام به جوني أبلتون يمكننا أن نصل إلى أسلوب سوي لحل المشاكل . و يطالب المؤلّف هاي روتشيلدز بتأمّل الملامح الرئيسية للعملية :
أولا : يقوم الحل على الخبرات الماضية، و الحقائق التي ترسّبت في العقل .
ثانيا : الحقائق التي يمكن تطبيقها على المشكلة، نستدعيها من خلال عملية "البحث العقلي"، التي نحفر فيها وسط الرصيد الضخم من الذكريات المخزونة في المخ .
ثالثا : يمكن أن تندمج في عقولنا بعد ذلك الحقائق المتّصلة بالمشكلة، لتصبح في صورة عدّة حلول ممكنة . هذه العملية، عملية وضع الحقائق إلى جوار بعضها البعض، و السعي للقيام بالتجارب العقلية، ثم مناقشتها بشكل سليم، للوصول منها إلى الاستخلاصات .. هذه العملية هي جوهر التفكير الواضح .
رابعا : التفكير الواضح، يتضمّن سلسلة من هذه النشاطات العقلية، حيث يقود الحلّ المقترح لمشكلة ما إلى ابتكار الحلول المحتملة، ممّا يصل بنا في نهاية الأمر إلى استخلاص نهائي كامل .
خامسا : أخيرا، قد نبدأ في اتخاذ الخطوات العملية لحل المشكلة، و هو هدفنا من التفكير الواضح . الأفضل هو أن نصل إلى حل المشكلة، فإذا لم يتم ذلك، فنحن لا نخسر كلّ شيء . جهــدنا، سواء كان ناجحا أم فاشلا، تضاف نتيجته كخبرة سابقة في بنك ذكرياتنا، نستخرجها مستقبلا عندما نمرّ بخبرة شبيهة .

عالم من التجريدات

يقول روتشيلدز، أنّه من الضروري في عالم اليوم أن نكون قادرين على التعامل مع المفاهيم المجرّدة، في عديد من المهن و الوظائف، ممّا يختلف كثيرا عمّا كان مطلوبا من أسلافنا البدائيين . و يكفي في هذا أن نفكّر في المشاكل المجرّدة التي يكون على المهندس أن يحلّها و هو يبني جسرا معدنيا كبيرا، أو الطبيب الذي يواجه تشخيص حالة مرضية غير نمطيّة، إلى آخر ذلك .
و النتيجة، أنّنا نعيش اليوم في عالم من التجريدات، تصبح فيها الحقائق غائمة و مختلطة إلى أبعد حدّ . لهذا، يكون من السهل أن تجيء الاستخلاصات خاطئة، ممّا يعطّل إنتاجنا و يعقّد حياتنا .
و نحن نصل إلى المعـرفة من خلال كمّ هائل من مصادر الاتّصـال، التي تزوّدنا بمعلومات مباشرة و غير مباشرة حول أحداث تجري بعيدا، أو بيانات توصّل إليها أناس آخرون، ربّما تكون قد خضعت في معالجتـها إلى غيرهم . نحن نحصل على معلوماتنا المجـرّدة ـ أوّل ما نحصل عليها ـ من المدرسـة والمدرّسين . و نحن نقرأ الكتب و الجرائد و المجلاّت التي تحفل بالتجريدات، كما تتدفّق علينا كلّ أنواع الرسائل غير المباشرة، أو التي نتبنّاها بطريقة لاشعورية، من الإعلام المسموع و المرئي .
و اليوم نصل إلى قمّة هذا، مع تفجّر ثورة المعلومات، بما تجلبه من المزيد و المزيد من أجهزة الكمبيوتر القويّة، و وسائل الاتّصال المتطوّرة عن طريق أقمار الاتّصال، فنغرق أكثر فأكثر في المعلومات المجرّدة .
مع تعقّد الحياة، تصبح عواقب التفكير الخاطئ أكثر تكلفة و خطورة :
• الاستخلاص الخاطئ بالمفاعل النووي الأمريكي، في "ثري مايلز أيلاند"، بلغت خسائره بليون دولار .
• القرار الخاطئ في ملاحة ناقلة البترول (فالديز) التابعة لشركة "إيكسون"، عبر مياه ألاسكا، قاد إلى أضرار بيئية هائلة، تكلّفت فيها عمليات التنظيف الجزئي للزيت المنسكب ما يصل إلى مليوني دولار .
• الاستخلاص الخاطئ من جانب غوّاصة نووية، يمكن أن يقود إلى حرب عالمية .
مفتاح التفكير الواضح
يصل هاي روتشيلدز في كتابه "التفكير الواضح " إلى عدّة مبادئ أساسية، يحبّ أن تكون نصب أعيننا، و يعتبرها المفتاح إلى التفكير الواضح :
• الحقائق، و بخاصة التعميمية، لا يجب الاعتماد عليها و اعتبارها صادقة، قبل مراجعتها بشكل مناسب، والتحقق من صدقها .
• " توقّف"، و "انظر"، و "أنصت"، كلّما صادفت تناقضا يشير إلى أن الحقيقة التي تعتمد عليها خاطئة، أو غائمة، أو تعكس خطأ في التفكير .
• صيغنا العقلية و طرقنا الخاصّة في التفكير، تصنع قيدا على تفكيرنا، و تعوق وصولنا إلى حلول للمشاكل التي تواجهنا .
• الاتّصالات السليمة الدقيقة، خلال الكلمة المكتوبة أو المسموعة أو المرئية، ليست سهلة . لذا، يجب أن نكون يقظين للطرق المختلفة التي يتمّ بها بثّ الرسائل و استقبالها، فيما يتّصل بالاستخدام الخاطئ للغة، أو الخلط في دلالات الألفاظ
• معالجة الأفكار العقلانية، يمكن أن يفسدها الاعتماد على الحقائق الخاطئة أو المشوّشة، أو التعميم المخلّ، أو القفز إلى الاستخلاصات، أو اتّباع التفكير غير المنطقي .
• الكثير من الأفراد و الجماعات يحاولون التأثير على آرائنا و تحرّكاتنا، عن طريق خلط الأوراق، والعبث بالحقائق، و إبراز بعض الحقائق و إخفاء البعض الآخر من أجل تغليب فكرة معيّنة، و أيضا بالاعتماد على الإيحاء العاطفي الذي لا يستند إلى الحقائق، و تعمّد بثّ الرسائل اللاشعورية .
• يعلّمنا التاريخ أن نكون "متسامحين" إزاء الآراء المغايرة لآرائنا، فعادة ما توجد بعض الحقائق في الرؤية المغايرة لرؤيتنا .

***

يختم هاي روتشيلدز كتابه عن التفكير الواضح قائلا :
خمسة مليارات من البشر على سطح الأرض، يؤمنون بما يزيد عن خمسة أديان رئيسية، و مئات العقائد الأقل شيوعا . و آلاف الثقافات و الخلفيات المختلفة، تزعم كلّ منها درجة من التفوّق على الأخرى . لهذا، ففي عالم اليوم الذي يمضي نحو المجتمعات العالمية (جلوبال)، لا يمكن أن نصل إلى حلّ لمشاكل العالم الملحّة العاجلة، بهدف تحقيق السلام و الحفاظ على البيئة، إلاّ بالجهد المستمرّ الذي يستهدف فهمنا لبعضنا البعض، و باستعدادنا للقيام ببعض التنازلات عندما يقود الاختلاف إلى أزمة .
التفكير الجليّ و الواضح، يكون ضروريا عند سعينا لتحقيق هذا الهدف الحيوي .

و في الرسالة التالية ننتقل إلى نوع آخر من أنواع التفكير المستحدثة .

ليست هناك تعليقات: