الاثنين، نوفمبر ٢٦، ٢٠٠٧


أينشتين .. بين الاستثارة و الجنون

اعتاد العلامة أينشتين أن يعتمد على ما كان يطلق عليه "تجارب التفكير"، كأن يقول مثلا " ماذا سأرى إذا ما كنت أرتحل بسرعة الضوء ؟ .. " . تجارب أينشتين العقلية هذه، شديدة الصلة بعملية "الاستثارة"، إحدى الآليات الابتكارية . الاستثارة تصل بنا إلى الأفكار الابتكارية دون انتظار الوصول إليها من خلال الصدفة أو الخطأ، إنها تتيح لنا أن نمارس "الجنون"، بشكل مؤقت ولمدة 30ثانية
Provocation المفكر الابتكاري إدوارد دي بونو، له كتاب عنوانه (بو .. بين نعم و لا) . و تعبير بو يرمز إلى عملية الاستثارة
و يعطي مثالا لمشكلة تلوث مياه النهر، نتيجة لصرف عوادم أحد المصانع فيه . فيقول " بو ..يستمد المصنع ما يحتاجه من ماء النهر، من المياه التي يصرف فيها عوادمه و فضلاته " . مما يعني، إمكان افتراض ذلك، على عكس المعقول و المنطقي . و إلا كيف يمكن للمصنع أن يكون في مكانين مختلفين على النهر، في نفس الوقت؟
عندما نطرح مثل هذه الاستثارة، ينصرف تفكيرنا إلى مدخلات و مخرجات المصنع بالنسبة للنهر . الطبيعي أن يستمد المصنع الماء النظيف من النهر من نقطة نظيفة، و بعد أن يصب عوادمه و تمضي إلى المصب . و من ثم، فان هذه الاستثارة تستهدف أن يكون المصنع هو أول من يعاني من أضرار ما يلقيه في النهر، فيصبح أكثر اهتماما بخفض عمليات تلويث النهر . و الطريف أن بعض الدول قد أخذت بهده الفكرة
بيع المنتجات للمنافسين

و مثال آخر . في إحدى الشركات الكبرى، و خلال مناقشة حول كيفية التصرف في منتجات الشركة، قال المدير معتمدا على آلية الاستثارة ـ بـو .. نبيع منتجاتنا إلى منافسينا ..
قادت هذه الاستثارة إلى تغيير الطريقة العادية في إنتاج الشركة، و إلى تخفيض كبير في زمن و نفقات و جهد البحث عن سبل التطوير . و يورد دي بونو أمثلة واقعية في مجال الاعتماد على "بو" في إجراء الاستثارة و تحريك الأفكار، كانت مفيدة رغم عدم معقوليتها
إطارات مربعة و ليست مستديرة للسيارة .
هبوط الطائرات إلى أرض المطار بظهرها .
إغلاق الخطابات بعد وضعها في صناديق البريد .
و قد تبدو عملية الاستثارة، للوهلة الأولى، مجرد تصويب عشوائي، نذكر فيه أي فكرة تمر بعقولنا، على أمل أن تثبت فائدة واحدة منها . مما ينطبق على عملية "العصف الذهني"، التي يميل البعض إلى الاعتماد عليها . غير أن حصيلة العصف الذهني تكون غالبا ضعيفة، رغم ما تبدده من وقت و جهد .
النظم ذاتية الترتيب، كالعقل البشري، تحتاج إلى آلية الاستثارة التي تحدث حالة من عدم الاستقرار، مما يسمح بالوصول إلى حالة استقرار جديدة، أفضل من سابقتها . و في مجال الكيمياء إذا أردنا أن نتحرك من المركب الكيميائي المستقر إلى مركب مستقر آخر، يكون علينا أن نعبر بالمركب الكيميائي حالة من عدم الاستقرار . كذلك في مجال الطبيعة، تمر عملية إعادة ترتيب الوضع النسبي للذرات في الجزيء، من خلال خطوة عدم الاستقرار هذه. أرجو ألاّ يكون هذا هو ما قصدت إليه كونداليزا رايس عندما وصفت عمليات التخريب في الشرق الأوسط بتعبير الفوضى الخلاّقة!!..راجي
بين الاستثارة و الافتراضات

طرح الافتراضات يسمح لنا بتخمين ما قد يوجد من آليات تحتية في أفكارنا، مما يوضح لنا اتجاه تفكيرنا و إطاره، حول مسألة معينة . و الاستثارة توفر لنا أيضا ذلك الإطار الجديد، غير أنها تمضي إلى ما هو أبعد من الافتراضات
الافتراضات تقوم على محاولة التبرير، أما الاستثارة فعادة ما تسعى إلى ما هو "غير معقول أو منطقي"، بهدف هز تفكيرنا و إخراجه من قنواته الاعتيادية . نحن لا نسعى إلى إثبات فائدة الإطارات المربعة للسيارة، أو فائدة هبوط الطائرة بظهرها . إننا نستهدف الوصول ـآخر الأمرـ إلى فكرة مفيدة، تختلف تماما عن الاستثارة التي قمنا بها، و غالبا ما تكون منفصلة عنها
تهدف الافتراضات و الاستثارة إلى تغيير مفاهيمنا، من أجل تطوير أفكارنا حول موضوع معين . و تقنية الاستثارة تتم على مرحلتين: الأولي تتضمن إجراء الاستثارة ، و الثانية تتضمن استخدامها في "الحركة" إلى الأمام، تجاه فكرة جديدة مفيدة

لا ابتكار بدون حركة

الحركة، عملية عقلية هامة للغاية، تحتل موقعا مركزيا في التفكير الابتكاري . غير أن الحركة لا تشكل جانبا طبيعيا من سلوكنا عند التفكير
عندما نشرع في عملية "الحكم" أو "التقييم" فيما يتصل بفكرة ما، نعمد إلى المقارنة بين هذه الفكرة و بين أنماط خبراتنا السابقة أو القائمة، فإذا لم تكن متوافقة معها رفضنا تلك الفكرة . لكن عند اعتمادنا على آلية الحركة، لا يهمنا اتفاق الفكرة مع خبراتنا
عملية "الحركة"، تعني الرغبة في التقدم إلى الأمام، من خلال عملية استكشاف إيجابية، و ليس بالوقوف عند "الحكم و التقييم" لمعرفة مدى صواب الأمر المطروح . و هناك سبيلان عريضان لاستخدام الحركة، كموقف عام، و كتقنية أو آلية منتظمة
الموقف العــام : الحركة كموقف عام تتضمن رغبة عامة في التحرك إلى الأمام، انطلاقا من فكرة أو استثارة . و البدء بالحركة كموقف عام في التفكير يستحق كل ما يبذل فيه من جهد . لكن، إذا لم تتحقق النتائج المرجوة من هذا الموقف، يكون علينا أن نعتمد على آليات الحركة المنظمة
الآليات المنظـمة : توجد خمس آليات منظمة للوصول إلى الحركة من أي استثارة . و كل آلية من هذه الآليات يمكن تعلمها و التدرب عليها و تطبيقها بشكل متعمد
آلية استنباط مبدأ

نحن هنا نتأمل الاستثارة التي نقوم بها، أو التي يقوم بها الآخرون، ثم نسعى إلى استنباط مبدأ ما من هذه الاستثارة . و يورد د. دي بونو مثالا لذلك ما حدث عندما كانت إحدى شركات الدعاية و الإعلان تبحث عن "سبيل إعلاني جديد" . فاقترح أحد العاملين استثارة قال فيها
بو ..إحياء ظاهرة الداعية المتجول في أنحاء المدينة .
و رغم عدم قدرة الداعية المتجول على القيام بعمله بشكل جيد، في المدن الحديثة بمبانيها الشاهقة وبشوارعها المزدحمة بالسيارات..لكنها كانت مجرد استثارة
سأل قادة الشركة أنفسهم : ما هي المبادئ أو المفاهيم أو السمات التي يمكن أن تقودنا إليها فكرة الداعية المتجول هذه . و كانت الإجابات كما يلي
ـ يستطيع أن يمضي إلى حيث يوجد الجمهور .
ـ يستطيع أن يعدل و يغير في الرسالة التي يحملها وفقا لنوع و حالة الجمهور .
ـ يجيب على ما قد يوجه إليه من أسئلة .
ـ يتجدد جهده و تفكيره وفقا لما يحدث من تحولات أو تغييرات.
ـ ليس من السهل التحول عنه، بمثل ما يتحول أفراد الجمهور عن إعلانات القناة التلفزيونية

الإعلانـات التليفونية

كل عنصر من العناصر المطروحة هذه يمكن "استنباطه"، ثم استخدامه، غير أن العنصر الذي اختارت قيادات الشركة أن تركز عليه، و قررت استخدامه هو العنصر الأخير، و الذي يقول : ليس من السهل التحول عن الداعية الجوال كما نتحول عن إعلانات التلفزيون

ماذا يعني هذا ؟ .. يعني أن قيادات الشركة صرفت النظر عن الداعية المتجول، و ما قيل عنه،ثم ركزت على البحث قناة أخرى
هنا قفز التليفون إلى أذهانهم . لماذا لا نفكر في إقامة أكشاك تليفون عمومية، لا تتقاضى أجرا عن المكالمات المحلية، في مقابل أن تتخلل المكالمة بعض الرسائل الإعلانية ؟ هذا مجرد مثال لإمكان التحرك من استثارة معينة، لتطوير فكرة أصيلة، يمكن أن تكون لها قيمتها .
وتلي آلية استنباط المبدأ، آلية أخرى من لآليات الحركة، هي "آلية التركيز على الاختلاف" .، و هو ما سنتناوله في الرسالة التالية

ليست هناك تعليقات: