
الهروب من الفكرة الناجحة
في بدايــة السبعينيّات، بدأت صناعة السيّارات في الولايات المتّحدة الأمريكية في إنتاج السيّارات صغيرة الحجم.. غير أن الموزعين لم يعجبهم هذا، و حثّوا
المنتجين على العودة إلى إنتاج السيارات الفارهة الكبيرة، فاستجاب لهم المنتجون . و حتّى عندما حلّت أزمة أسعار البترول في "الأوبيك" بعد ذلك، و ارتفعت أسعاره ارتفاعا كبيراً، ظل المنتجون سجناء لهذا التوجّه، و رفضوا العودة إلى السيّارة الصغيرة، ممّا ترك الساحة خالية للمصدّرين اليابانيين . و هذا هو أحد أشكال الاستمراريّة المعاكسة للابتكار، الاستمرار في الناجح الذي تعوّدنا عليه، بصرف النظر عن مدى فائدته حاليّا .
عندما تنجح معنا فكرة ما، مرّة بعد أخرى، غالباً ما نعتقد أن هذه الفكرة ستظل ناجحة للأبد . فإذا ارتبكت الأمور، لا نعمد إلى امتحان و تحدّي هذه الفكرة، أو المفهوم الذي خرجت منه، بل نقتصر على مناقشة كلّ الأسباب الهامشيّة، لمعرفة السبب في عدم النجاح .
عندما تنجح معنا فكرة ما، مرّة بعد أخرى، غالباً ما نعتقد أن هذه الفكرة ستظل ناجحة للأبد . فإذا ارتبكت الأمور، لا نعمد إلى امتحان و تحدّي هذه الفكرة، أو المفهوم الذي خرجت منه، بل نقتصر على مناقشة كلّ الأسباب الهامشيّة، لمعرفة السبب في عدم النجاح .
السكك الحديديّة و الطائرات
الخبرات تصلنا من خلال تتابع زمني، و لذلك فهي تنظّم نفسها على شكل هياكل و مفاهيم ثابتة داخل عقولنا، تتحكّم في تفكيرنا، و تحتاج إلى جهد ابتكاري في تفكيكها و إعادة تركيبها، لكي تتّفق مع الواقع الجديد . يطلق د. دي بونو على هذا اسم "استمراريّة التتابع الزمني"، و يقول أن السكك الحديديّة شاعت قبل ظهور خطوط الطيران، و أنّه إذا تأمّلنا طبيعة تنظيم الخطوط الجوّيّة، وجدنا أن العديد من مفاهيمها غير مناسب، و نابع من مفاهيم السكك الحديديّة . و أن مرجع ذلك أنّنا نظرنا إلى الطائرات، باعتبارها سكك جديدة تسبح في الفضاء ! .
و آليّة التحدّي الابتكارية، تساعد على تحليل الاستمراريّة، من أجل التحرّر من المفاهيم التي مضى زمنها.. التي كانت ناجحة فيما مضى، و يصعب استمرارها الآن نتيجة العديد من التغيّرات الجارية :
* التغيّر التكنولوجي ( ظهور الكمبيوتر و الفاكس ) .
* أو تغيّر القيم (كما في الاهتمام المتزايد بالبيئة ) .
* أو تغيّر الظروف ( كما في سقوط نظم الحكم الاشتراكية في روسيا و أوروبا ) .
* أو تغيّر التكلفة ( مثل تغيّر الأسعار، أو ارتفاعها على وجه التحديد ) .
كلّ هذه الأنواع من التغيّر، تفيد أن المفاهيم و الأفكار التي كانت ذات قيمة في وقت من الأوقات لم تعد نافعة لنا الآن . و من ثمّ، يصبح من الضروري اعتبار تحليل عناصر الاستمرار و ممارسة التحدّي الابتكاري نشاطا هامّا و ليس كماليّاً .
بين تحدّي المفاهيم و تحدّي الأفكار
بإمكاننا أن نتحدّى المفاهيم الأساسيّة التي تقوم عليها عملية ما، و أيضا بإمكاننا أن نتحدّى الأفكار (أي الطريقة الخاصّة التي نطبّق بها هذه المفاهيم) .
في هذا يقول دي بونو، يمكننا أن نتحدّى مفهوم المحال التجاريّة المقامة في وسط المدينة، أو نقف عند حدّ تحدي موقع هذه المحال بوسط المدينة . إنّنا نسأل أنفسنا : ما هو المفهوم الذي وراء ذلك ؟، هل ما زال ذلك المفهوم صالحا و قائما ؟، هل هو حتمي أن نواصل تطبيق هذا المفهوم بهذه الطريقة ؟ .
مثال آخر، في مواجهة أزمة المرور بسنغافورة، تحدّت الحكومة حقّ المواطنين المشترط في حرية شراء سيّارة . أصبح عليه أن يحصل على تصريح بشراء السيّارة، حتّى لو توفر لديه المال اللازم . و من بين الأفكار المطروحة في هذا المجال، أن يدفع صاحب السيّارة رسماً إضافيّاً، وفقا لاستخدامه طرقاً معينة في أوقات معينة . و بديهي أن تطبيق هذا يعتمد على تكنولوجيات متطوّرة، تتضمّن أجهزة إلكترونيّة مركّبة في الطرق، تحسب مرور السيّارات في الأوقات و الأماكن المزدحمة بوسط المدينة، و تطبع الفواتير اللازمة لمحاسبة أصحاب السيّارات .
تحدّي مكوّنات تفكيرنا
و كما نتحدّى الأفكار و المفاهيم، يمكننا أيضاً أن نتحدّى العناصر التي تشكّل تفكيرنا . إنّنا نتوقّف، لكي نلقي نظرة متأنّية على عملية التفكير ذاتها .فنلتقط من خلال ذلك العناصر المشكّلة لهذا التفكير، ثم نعمد إلى تحدّيها . فما هي تلك العناصر التي سنتحدّاها ؟ .
(1) المفاهيم المسيطرة : المفاهيم المسيطرة على عقولنا تكون عادة قويّة إلى حد بعيد . في بعض الأحيان تكون شديدة الوضوح، و في أحيان أخرى تتخفّى في مؤخّرة العقل . هنا، نسأل أنفسنا " ما هي المفاهيم التي تسيطر على تفكيرنا في هذا المجال أو هذه النقطة ؟ "، أو "ما هي المفاهيم الخفيّة التحتيّة التي تحكم تفكيرنا هنا ؟" .
مثال ذلك، عند بحثنا لمشكلة اختناقات المرور بوسط المدينة، قد يكون المفهوم المسيطر علينا هو "تشجيع قادة السيّارات على عدم الدخول بسيّاراتهم إلى وسط المدينة" . و لكي نتخلّص من سيطرة هذا المفهوم، نسأل أنفسنا "ألا يجوز أن نصل إلى مفاهيم أخرى تحتاج إلى تغيير في هذا المجال"، أو "ألا يمكن أن نبحث عن مفاهيم بديلة ؟" .
( 2 ) الافتراضـــات : بدون الاعتماد على بعض الافتراضات يصبح التفكير مستحيلاً . و هي تقوم على الخبرة، خبراتنا أو خبرات من سبقونا، و تسهّل عمليات التفكير، بتضييق احتمالات ما يجب علينا أن نفكّر فيه . و رغم فائدة الافتراضات، يكون من المفيد أن نعي الافتراضات التي نعتمد عليها، وأن نقوم بتحدّيها إذا لزم الأمر، كأن نقول :
ـ ما هي الافتراضات التي تصنع خلفيّة تفكيرنا ؟ .
ـ ما الذي نفترضه هنا ؟ .
في مثال ازدحام المرور بالمدن الكبرى، قد يمضي تفكيرنا بافتراض أن السيارات تنطلق بقيادة أصحابها فقط، أو أن أتوبيسات المدارس و الموظّفين لا يستفاد بها في غير ذلك باقي ساعات اليوم . و مع ما نقوم به من تحدّي، نزيح هذه الافتراضات جانبا، للفكاك من سيطرتها على تفكيرنا .
( 3 ) الحــدود : حدود تفكيرنا لها نفس أهمّية الافتراضات . إنّنا نعمل في حدود ما هو مجدي، أو مسموح، أو مقبول . إذا أردنا لأفكارنا أن تكون معقولة، حصرنا تفكيرنا في حدود المنطق الذي قام على أساس الوضع الحالي ، أو السابق، لمعارفنا . لهذا، نحتاج أثناء التفكير أن نجعل الحدود ظاهرة، لكي نتمكّن من تحدّيها، فنسأل أنفسنا :
ـ ما هي الحدود التي نلتزم بها في تفكيرنا ؟ .
ـ ما هي الحدود التي يمكن أن نتصدّى لها ؟ ,
في مثال ازدحام المرور، نواجه حدود التكلفة لأي فكرة، أو حدود التكنولوجيا، أو الحدود المادّية الحاليّة للمدينة ، و تصميم الطرق بها .
( 4 ) العوامل الأساسيّة : أيّاً كانت مهارتنا عند التفكير في الخطوط الجوّية، فلا ريب أنّ عنصر "الأمان" يجب أن تكون له الصدارة دائماً، باعتباره من العوامل الأساسيّة . و العوامل الأساسيّة تفرض نفسها على أيّ حلّ نفكّر فيه . لكن لمّا كان من الممكن أن نتحدّى أيّ شيء، فبالإمكان تحدّي هذه العوامل أيضاً . نسأل أنفسنا " ما هو العامل الأساسي هنا ؟"، أو "لماذا يجب أن ندخل في اعتبارنا هذه العوامل ؟".
"إمداد المحال التجاريّة بالسلع"، قد يكون من العوامل الأساسيّة عند التفكير في مشكلة ازدحام المرور، ثم هناك عامل "النظام العام للسير" الذي لا يمكن خرقه . الذي يجب أن ننتبه إليه، هو إمكان ممارسة التحدّي الابتكاري، رغم ما في ذلك من مصاعب .
( 5 ) عوامل التجنّب و التحاشي : و هذه تختلف عن الحدود لأنّه بإمكاننا أن نعتمد عليها لو شئنا . ونحن نتجنّبها عند التفكير باعتبارها غير مقبولة . علينا أن نسأل أنفسنا :
ـ ما هي العناصر أو العوامل التي نحاول تجنّبها خلال تفكيرنا في هذا ؟ .
ـ ما هي الأشياء التي نريد أن نتحاشاها ؟ .
في مثال المرور، يمكن تجنّب تسهيل تدفّق السيّارات إلى وسط المدينة، أو تجنّب التشريعات التي تضع عبئاً إضافيَاً على شرطة المرور.. مناقشة هذا يقودنا إلى عملية "استثارة" تفتح باب الأفكار الابتكاريّة .
( 6 ) الاستقطاب بين هذا أو ذاك : في مشكلة المرور، قد نقول" إمّا أن نصلح المرور، أو نمنع السيّارات من دخول وسط المدينة"، قد يبدو هذا التفكير راجحاً، لكن الاستقطاب بين هذا أو ذاك عادة ما يكون خطيراً، لأنّه يقصر حلّ المشكلة على هذين الحدّين . عينا أن نسأل أنفسنا دائما " أين يكمن الاستقطاب في حديثنا هذا ؟ . فهذا هو الذي يفتح أمامنا سبلاً جديدة لم نكن ننتبه لوجودها .
و إلى الرسالة القادمة، لنرى كيف هرب اليابانيون من عقيدة الجدل الإغريقي ؟
هناك تعليق واحد:
عنوان مثير و موضوع مهم فعلا نحن نحتاج لتحريك عقولنا و إستيعاب المتغيرات و إعادة تقييم مفاهيمنا و وجهات نظرنا.
فأنا أقول أنا أسباب نجاح جيل آبائنا فى الظروف التى أحاطتهم هى نفسها أسباب فشل جيلينا بعد تغير الظروف التى أحاطتنا.
و لهذا يجب علينا أولا ملاحظة التغيرات و إدراكها و التفاعل معها و ليت كل الأباء مثلك لديهم القدرة على إدراك التغير.
اللافت للنظر فى آبائنا تحجر وجهات نظرهم فهم لا يذكرون كيف كانوا فى مراحلهم السنية السابقة و لا يدركون ما طرأ من تغير حاليا فى الحياة و الظروف المحيطة و تجدهم مع كل هذا يفرضون عليك آراء تدهشك من عدم صلاحيتها للإستخدام لا الآدمى و لا غيره، و إذا سنحت لك الفرصة و تنازل أحدهم و قبل النقاش بشكل موضوعى لا تجد عنده أى سند أو دليل مقنع سوى أنه أكبر سنا و يعتبر هذا دلاله على إنه بيفهم أكثر، منين و هو لا يحاول الإطلاع على المتغيرات، حاجة تجنن. مع إنهم بيقولوا مثل حلو جدا " كم من صغير اتنشأ باس الكبير إيده" و ده يدل على إمكانية رجاحة العقل لمن هم أصغر سنا و لكن للأسف مثل معطل أنا لا أقول أننا أرجح عقولا من آبائنا و لكن يجب أن يحترموا عقولنا و يقنعونا بالحجة مش بالسن.
و لك كل تقدير و احترام على أفكارك
إرسال تعليق