أهميّة التفكير دون وجود مشكلة
يتصوّر معظمنا أن التفكير يكون مطلوباً عندما نواجه مشكلة تقتضي الحلّ، أو صعوبة نحتاج أن نتجاوزها . غير أن التفكير الابتكاري يتيح لنا أن تتّسع ممارستنا للتفكير بحيث تصبح حول أيّ شيء على الإطلاق، في غياب المشكلة و الصعوبة أو حتّى المنفعة المحتملة . و التركيـز كآليّة ابتكاريّة، و بخاصة التركيز على المجال العام، و ليس على مجال خاص أو غرض معيّن، يفيد في مضاعفة نطاق التفكير الابتكاري
و تحديد الغرض أو الهدف الخاص، غالباً ما يفرض علينا نوع الأفكار التي تعوّدنا عليها، و ليس الأفكار الجديدة غير المسبوقة . و حتّى يتّضح هذا، يمكن أن نقارن بين قولين
• نريد أفكارا حول تخفيض تكلفة كابينة الخدمة في الطائرات .
• نريد بعض الأفكار في مجال كابينة الخدمة في الطائرات .
في الحالة الأولى يتحدّد مجال تركيزنا في التفكير، بتركيزنا على تكاليف الخدمة، و هذا جانب إيجابي من التفكير الابتكاري . أمّا في الحالة الثانية، فالتساؤل قد يقودنا إلى احتمال التفكير في تخفيض التكلفة، لكن من الممكن أيضاً أن يصل بنا إلى أفكار تضاعف من قيمة كابينة الخدمات إلى حدّ بعيد، بحيث تصبح التكلفة الزائدة في آخر الأمر مربحة .
التركيز على الغرض المحدّد
التركيز على غرض محدّد هو نوع التركيز الذي نألفه و نمارسه جميعا، كأن نقول : ما هو غرض تفكيرنا ؟، ما الذي نسعى إلى تحقيقه ؟، ما هو الهدف ؟، ما الذي نريد أن ننتهي إليه ؟ .
و هناك أربع حالات رئيسيّة في مجال التركيز على الغرض :
التطوير و التجويد : يمكن تعريف التركيز الابتكاري بأنّه محاولة للتحسين أو التجويد في مجال معيّن، كأن نقول، "نريد أفكارا في مجال تخفيض تكاليف عمليات تدريب العاملين "، أو " نريد أفكاراً تخفّض فائض الطعام في المطاعم " . هذا النوع العام من التركيز يمكن أن يتجزّأ بعد ذلك إلى واجبات فرعية، و في كل واجب فرعي، يكون علينا أن نحدّد اتّجاه التحسين أو التجويد أو التطوير .
حـلّ المشاكل : عندما نتصدى لحل مشكلة ما، أو لتجاوز إحدى الصعوبات، نعرف منذ البداية أنّنا نريد أن ينتهي جهدنا بحل المشكلة أو تخطّي الصعوبة، مثال ذلك :
ـ كيف يمكن أن تخفيض خسارة السوبر ماركت من سرقات الزبائن ؟ .
ـ كيف يمكننا أن نتعامل مع العنف الذي شاع في الشوارع ؟ .
ـ نريد أفكاراً تساعدنا في خفض الضوضاء خلال الاتّصالات اللاسلكيّة .
و قد ينشأ بعض الخلط بين غرض التحسين و غرض حلّ المشكلة . الفارق الرئيسي، هو أنّنا عند حلّ المشكلة تكون الصعوبة التي نواجهها محدّدة، بينما نسعى عند التحسين إلى تغيير في الاتّجاه العام، كالتكلفة أو الزمن أو غير ذلك .
المهمّـــة : في حالة المهمّة، لا يقف الأمر عند إزاحة المشكلة، لكنّه يتضمّن الوصول إلى نقطة معيّنة . كأن نقول :
ـ نريد الوصول إلى تصميم ثلاّجة قليلة العمق .
ـ نريد طريقة عمليّة للاتّصال بخمسة آلاف مندوب .
ـ نريد بعض الشعارات القويّة، التي تساعدنا في الحملة الانتخابيّة .
الفرصـــة : هنا، يتضمّن الأمر إحساساً بوجود احتمال جديد أو فرصة نافعة . و الفرص يمكن أن نتناولها بسهولة كمجال عام في التركيز الابتكاري . كأن نقول :
ـ كيف يمكن أن نستخدم مادة لاصقة لا تجفّ أبداً .
ـ لم يعد في مقدور الناس اقتصاديّاً شراء المنازل الكبيرة، هل يمكن أن نجد فرصة في ذلك ؟ .
ـ هوائيّات استقبال بثّ الأقمار الاصطناعية آخذة في الرخص، ما هي فرصنا في هذا المجال ؟ .
مناسبات استخدام التركيز الابتكاري
لقد تعرّفنا الآن على أنواع و أنماط و مبرّرات التركيز الابتكاري . و سنحاول فيما يلي أن نطرح استخدامات آليّة التركيز بهدف الوصول إلى أفكار ابتكاريّة، و المناسبات التي يصبح فيها الاعتماد على التركيز الابتكاري أكثر فعّالية في تحقيق الابتكار .
(1) الحاجة المحدّدة أو الغرض المحدّد :
نكون هنا أمام غرض أو هدف محدّد تماما . و يعتبر هذا الموقف مناسبة صالحة لاستخدام آليّة التركيز الابتكاري . المهمّة المحدّدة، يمكن أن يختارها الفرد لنفسه، أو تختارها المجموعة المشاركة في التفكير، أو حتّى عندما تصل كتكليف من جهة ما .
(2) المراجعـة الروتينـية :
هنـا، لا نكون أمام هدف معيّن، أو مشكلة بذاتها . إنّما نتعمّد إعادة النظر في بعض العمليات أو الإجراءات التي تعوّدنا عليها . و الموضوع الذي نعيد النظر فيه، يمكن تقسيمه إلى عدّة مجالات مناسبة لتركيز الاهتمام، بحيث يتم تطبيق التفكير الابتكاري على كلّ مجال في وقته .
(3) نقطة الفكرة الحسّاسة :
كلمة " حسّاسة " هذه تشير إلى أن الوصول إلى فكرة جديدة، عند هذه النقطة، يكون له تأثير قوي للغاية في المجال الذي يدور فيه التفكير .
و في هذا يقول دي بونو أن عجلة القيادة "الحسّاسة" في السيّارة، تعني أن الحركة الصغيرة من العجلة تؤدّي إلى تغيير كبير في اتّجاه السيّارة . و أن فيلم آلة التصوير "الحسّاس"، يستجيب حتّى بالنسبة للضوء الضعيف .
أي أن جهدنا هنا ينصبّ على السعي لاكتشاف هذه النقطة التي تقود إلى تغيير في الأفكار، أو في المضامين و المفاهيم .
(4) النـــزوة :
قد نركّز، من وقت لآخر، على شيء بغير سبب واضح على الإطلاق، لمجرّد إنّنا نشعر برغبتنا في ذلك، بما يشبه النزوة . و الحكمة في هذا الموقف، في إطار التفكير الابتكاري، هي إعطاء شرعيّة لرغبتنا في التركيز على شيء ما دون سبب معقول لذلك . و المكسب، هو أن هذه الطريقة يمكن أن تقودنا إلى التركيز على أشياء لم يسع الآخرون إلى التركيز عليها .
تعدّد البؤرات و التعاريف البديلة
قد نختار بؤرة تركيز عريضة، أو قد نعمد إلى تجزئتها إلى بؤرات فرعيّة متعدّدة، أو واجبات جزئيّة مختلفة . كأن نقول " نحتاج إلى بعض الأفكار الجديدة في خدمات الأتوبيسات " . ثم نقول بعد ذلك " نريد تجزئة ذلك إلى عدّة عناصر : المهمّات، و التحكّم في المرور، و جداول العمل، ومشاكل الذروة، و تدريب السائقين .. إلى آخر ذلك " .
و أيضا يكون من المفيد أن نعيد تعريف المشاكل التي نتصدّى لها، أو أن نضع تعاريف بديلة للمشكلة، و لبؤرة التركيز . كأن نقول :
• " نريد أفكاراً في مجال إدارة الفنادق " .
• أو " نريد أفكاراً في مجال العلاقة بين إدارة الفندق و العاملين فيه " .
• أو " نريد أفكاراً تجعل إدارة الفندق أقلّ اعتمادا على مهارات الإدارة العليا " .
• أو " نريد التوصّل إلى وسائل جديدة تتيح دخول جميع العاملين في وظائف الإدارة " .
جميع هذه التعاريف تتّصل بالإدارة الفندقيّة، لكن التركيز يختلف تعريفه في كلّ حالة عن الأخرى. و في مثل هذه القائمة من تعاريف البؤرات البديلة، يمكن للمجموعة أن تختار ما يهمّها أكثر من غيره.
إعادة صياغة بؤرة التركيز
كلّ من تكون له صلة بالتدريس، يعلم أهمّية اختيار الكلمات بحرص . فاختيار كلمة بعينها، قد يشجّع على تويه التفكير في اتّجاه خاص، و التغيير الطفيف في اختيار الكلمات قد يقود التفكير إلى اتّجاه مختلف تماماً .
بعض الصياغات يمكن أن تقود إلى إشاعة حالة من الالتباس، كأن نقول " نريد أفكارا تساعد على الإقلال من العمل الكتابي الورقي في الشركة " . بؤرة التركيز هذه قد تصل بنا إلى اقتراح الاعتماد على البريد الإلكتروني، و غيره من وسائل الاتّصال التي لا تعتمد على الورق . لكن إذا ما كان القصد هو تخفيض حجم ما يستوجب القراءة و الحفظ، فان مثل هذه الاقتراحات قد لا تقود إلى تخفيض "عبء القراءة " . و كان الأفضل أن نقول" نريد تخفيض عبء القراءة على المديرين " .
و إذا قلنا " نريد تخفيض الاتّصالات بين المديرين "، تخوّف المديرون الذين يدركون أهمّية هذه الاتّصالات بالنسبة لهم . و من ثم يكون الأوفق أن نقول " نريد أفكاراً في مجال تخفيض الاتّصالات غير الضروريّة بين المديرين " .
الخلاصة، أن الزمن الذي نمضيه في الصياغة الدقيقة، يعتبر استثماراً جيّداً على المدى البعيد .
وفي الرسالة لقادمة، نرى كيف يمكن أن نتحدّى أفكارنا و مكونات عقولنا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق