الخميس، فبراير ١٢، ٢٠٠٩

التفكيــر الناقــد

نشاط معاش

و ليس تسلية أكاديمية

يقول بروكفيلد أن التفكير الناقد هو نشاط معاش، و ليس مجرّد تسلية أكاديمية . إنّه ما يفعله كلّ منّا، بالرغم من قلّة الممارسة، و باختلاف درجة اقتناعنا به . و هو ممارســة عامة، رغم تباين ممارسـته من شخص لآخر، بعد أن أصبحت حياتنا معقّدة و مختلطـــة إلى أبعد حدّ . لقد أصبح من الصعب تجاهــل الإحساس بأن العالم يمضي في الطريق الذي تصوّرناه، أو افترضناه، و الإحساس بضرورة وجود طرق أخرى للحياة .
كما يقول بروكفيلد أنّنا غالبا ما ننظر إلى التفكير الناقد باعتياره نشاطا أكاديميا مجرّدا، و أنّه مقطوع الصلة بالحياة المعاشة، لهذا يكون من المفيد جدا أن نحدّد نشاطين محوريين في التفكير الناقد، هما :
• التعرّف على الافتراضات، و تحدّيها .
• استكشاف و تصوّر البدائل .
ثم يحاول بعد ذلك أن يطرح الأوجـه المختلفة لهذين الشرطين المحوريين، كما يسعى إلى إعطـاء أمثلة على التفكير الناقد، و عائده في الحياة العملية . إلاّ أنّه يؤكّد في نفس الوقت أن هذا الفصل بين النشاطين المحوريين هو لمجرّد التوضيح و الشرح و التبسيط، ذلك لأنّها يندمجان ـ بشكل قوي أو ضعيف ـ وفقا لطبيعة ممارسي التفكير الناقد، و السياق الذي تقوم عليه حياة كلّ منهم .

من أين تأتي الافتراضات ؟

التعرّف على الافتراضات و تحدّيها، يظهر بوضوح عندما يحاول الإنسان تحسّس طرقه المعتادة في التفكير و التصرّف، و سبر غورها، و أيضا بالنسبة لطرق الآخرين من حوله . ذلك التحسّس و السبر الذي يستهدف التعرّف على حقيقة : القيم و الأفكار البديهية، و الأقوال النمطية حول الطبيعة البشرية والنظم الاجتماعية، و غير ذلك ممّا يؤخذ مأخذ التسليم و تقوم عليه حياتنا .
عندما يبدأ الناس في تأمّل سلوكهم المعتاد نحو شركاء حياتهم الزوجية، أو تجاه من يحبّون، ذلك السلوك الذي يتّخذ مسارات محدّدة . أو عندما يشرع العمّال في التساؤل حول الافتراضات التي تقوم عليها دوافعهم للعمل، و التي كان قد جرى تنظيم العمل على أساسها .. عندما يحدث ذلك، نكون بصدد أول عنصر من عناصر أو مكوّنات التفكير الناقد . و يطرح بروكفيلد بعض الأمثلة في مجال التعرّف على الافتراضات، و تحليلها :
• المدرّسون الذين يشرعون في التساؤل حول بعض الطرق التعليمية ( إلقاء المحاضرات، أم الحوار و النقاش، أم المعلومات المعتمدة على الكمبيوتر )، و التي تعتر مناسبة لأهداف معيّنة، أو لنوعيات خاصّة من المتعلّمين .
• الزوجان اللذان يتأمّلان ما يمكن أن يكون هناك من أفكار، تقوم عليها أحكامهما حول تقسيم العمل بينهما في حياتهما الزوجية، كالطهي و التنظيف و الإصلاحات المنزلية .
• المواطنون الذين يسألون عن المبرّرات التي يمكن أن يقدّمها السياسيون، بالنسبة لتصوّراتهم و تقييماتهم لبعض الدول، و تصنيفهم لها كدول جيدة للغاية أو شرّيرة للغاية .
• المشاهدون الذين يتساءلون حول المعايير التي تأخذ بها محطّات الإذاعة و التلفزيون، عندما تختار ما ترى أنّه يستحق البثّ .

السياق الذي وراء الافتراضات

يتحقّق العائد الأكبر لعملية التعرّف على الافتراضات، عند إدراك مدى أهمّية فهم السياق الذي يكمن خلف تلك الافتراضات، و أيضا التصرفات التي تتشكّل على أساسه . عندما يدرك الناس أن الفهم الكامل للتصرّفات و القيم و العقائد و الرموز الخلقية، يتم من خلال التعرّف على السياق الذي تخرج منه، يصبح إدراكهم أكثر نضجا و اكتمالا، ممّا يمكن أن نطلق عليه "الإدراك السياقي" .
أصحاب الإدراك السياقي، ينظرون إلى عقائدهم و مبادئهم و قيمهم باعتبارها تركيبات اجتماعية . وهم يفهمون أن النظم القيمية و المصطلحات السـلوكية، تنتقل اجتماعيا، و تتولّد و تتحدّد شخصيا، عن طريق الخبرة الخاصة .
و خلاصة القول، أن المعـرفة العامة و الخاصّة، لا بد أن ننظر إليها باعتبارها مشـروطة و مؤقّتة ونسبية . هذا بالإضافة إلى أنّها تنبع من سياق خاصّ بها . و هذه مسألة هامّة، و ركن أساسي من أركان التفكير الناقد . و يطرح بروكفيلد، هنا أيضا، بعض نماذج ذوي الإدراك السياقي :
• العاملون في أي مؤسسة، الذين يفهمون أن الطرق "العادية" التي يلتزمون بها في العمل و تنظيم الإنتاج في المكان الذي يعملون فيه، ليست "عادية" أو "طبيعية"، و لكنّها تعكس الفلسفة الشخصية لمدير المؤسسة، أو من هم في مستواه .
• المواطنون الذين يعرفون جيدا، أن كل ما تعتبره الحكومة شيئا "عاديا"، في مجال البطالة أو التضخم، يعكس فلسفة سياسية خاصة تلتزم بها هذه الحكومة، و مجموعة من أولويات سياسة الحزب الذي يشكل هذه الحكومة .
• الأبناء البالغون، الذين يدركون أن معارضة الآباء و الأمهات لاختياراتهم في الزواج أو في العمل الذي يرتبطون به، غالبا ما تقوم على أرضية من القواعد و التوقّعات الثقافية، النابعة من الزمن الذي كان فيه هؤلاء الآباء و الأمّهات صغارا .

الإحباط و انهزام الذات

هذا التحوّل في الموقف، من تصور أن ما نعتبره قيما و نظما و عقائد خلقية هو من ابتداعنا واختيارنا شخصيّا، إلى فهم أن ذلك كلّه وليد الثقافة التي عشناها و نعيشها، هذا التحوّل يمكن أن يثير ـ إلى أبعـد حـدّ ـ التحفّظ لدى معظم الناس .
عندما نكتشف أن التوجهات الخلقية و السلوكية التي نعتبرها من صنعنا شخصيّا و من صميم اختيارنا، هي في حقيقتها بنت الثقافة المؤثّرة فينا، فغالبا ما يقود ذلك الاكتشاف إلى إحساسنا بأن ذواتنا مهدّدة في صميمها . إلاّ أن هذا الاكتشاف يكون في بعض الأحيان السبيل إلى الإحساس بالتحرّر والانعتاق . و في أحيان أخرى، يشعرنا اكتشاف أننا لسنا سوى إفراز للقوى الاجتماعية، بانتقاص في قدرتنا على الوصول إلى أفكار خاصّة بنا، مما يجعلنا نشعر بالإحباط . و يرى بروكفيلد أن هذه المرحلة تستحقّ تقديم المعونة المدرّبة الماهرة، لاجتياز مرحلة الكشف الحرجة هذه، من مراحل التفكير الناقد .

و في الرسالة التالية، نرى كيف يمكن للفرد أن يجمع بين التحدّي و الانتماء

ليست هناك تعليقات: